• Thursday, 25 April, 2024
  • 03:46 PM
الرئيسية العالم

ما يدعو للقلق في أزمة فنزويلا


  • أحمد المسلماني

  • 2020-02-17 03:18:51

نجحت كاميرات الصحافة في التقاط صورة لمستشار الأمن القومي الأمريكي وهو يمسك بورقة مكتوب عليها: "خمسة آلاف جندي إلى كولومبيا".

إذن.. فإنَّ ما قاله الرئيس الأمريكي ترامب عام 2017، ثم أعاده عام 2018 من أنّ "كل الخيارات مطروحة.. كل الخيارات على الطاولة". لم يكن مجرد تهديدٍ عام.

أصبحت دولة فنزويلا التي تقلُّ مساحتها قليلًا عن المليون كيلومتر مربع، ويزيد عدد سكانها قليلًا عن الثلاثين مليون نسمة.. ساحة لحرب فكريّة مروّعة: اليسار في السلطة واليمين في المعارضة.. تؤيد روسيا اليسار الحاكم وتؤيد أمريكا اليمين المعارض. تعترف موسكو بالرئيس "نيكولاس مادورو" رئيسًا لفنزويلا، وتعترف واشنطن بزعيم المعارضة "خوان غوايدو" رئيسًا للبلاد. قامت روسيا بإرسال طائرات "تي يو 160" المعروفة باسم البجعة البيضاء إلى فنزويلا.. وهى طائرات يمكنها حمل قنابل نووية، واتصل الرئيس ترامب بزعيم المعارضة واعترف به رئيسًا، بينما انشق الملحق العسكري الفنزويلي في واشنطن وانحاز إلى المعارضة.

تقول واشنطن إن روسيا نقلت أطنان الذهب الفنزويلي إليها.. وتقول موسكو إن أمريكا تريد الاستيلاء على آبار النفط في فنزويلا. تقف الصين ودول أخرى مع روسيا إلى جوار "الرئيس الحاكم"، وتقف البرازيل ودول أخرى مع أمريكا إلى جوار "الرئيس المعارض".

أصبحنا إزاء رئيسيْن لا رئيس واحد.. أصبحت الدولة مؤهلة إذن للانقسام.. إنها البيئة المناسبة تمامًا لحربٍ أهليّة.

إن اقتصاد فنزويلا يتهاوى كل دقيقة، ولكنّه قد ينتهي تمامًا، وربما تمتد الاضطرابات أو تنشب الحرب الأهلية لعدة سنوات.. لن يبقى شئ في فنزويلا وقتها.. هنا يمكن الحديث عن المرحلة التالية: مرحلة إعادة الإعمار بأموال الفنزويليين من جديد.

هذه هى خريطة الطريق إذن: المشهد الأول.. اليسار الحاكم يترك الاقتصاد ويركِّز في الخطابة السياسية.. واليمين المعارض يتحالف مع الخارج لإسقاط اليسار الحاكم.

المشهد الثاني.. الاقتصاد يتراجع.. التضخّم يرتفع.. الأسعار تشتعل.. الفقراء يعانون.. المعارضة تفوز في الانتخابات.

المشهد الثالث.. اليسار يسيطر على الحكومة واليمين يسيطر على البرلمان. اليسار يستمر في الخطابة وواشنطن تواصل دعم اليمين.. اليسار لا يقدِّر أن الأمر خطير وأنه لا يمكن أن تستمر الأمور هكذا.

المشهد الرابع.. رئيس البرلمان الذي يقود اليمين يعلن نفسه رئيسًا للجمهورية، وبعد دقائق الرئيس الأمريكي يعترف بالرئيس الجديد، وبعد ثوانٍ دول أمريكا الجنوبية تعترف بالاعتراف الأمريكي، وبعد قليل.. الملحق العسكري الفنزويلي في واشنطن يعلن الانشقاق ويبدأ حركة إرباك القوات المسلحة.

المشهد الخامس.. الرئيس الحاكم يهدد باعتقال الرئيس المُعلن.. والرئيس المعلن يهدد باعتقال الرئيس الحاكم.

المشهد السادس.. انقسامات مدنية وعسكرية.. ومزيد من الجوع والخوف.. وشبح حرب أهلية.

المشهد السابع.. غزو أمريكي لفنزويلا وتأييد المعارضة والملايين من أنصارها للغزو.. والمطالبة ببقاء دائم للقوات الأمريكية لضمان وقف الدماء، وعدم عودة الوضع السابق.

المشهد الثامن..  شركات أمريكية وروسية وصينية وبرازيلية وأسبانية.. تتنافس على تعاقدات إعادة الإعمار في البلاد.

هذه ببساطة خريطة الطريق.. ولن يتغير فيها الكثير.. إذا تم القضاء على الرئيس "مادورو" وتولّى "غوايدو" السلطة.. حيث ستقوم المعارضة اليسارية بإدارة المعارك مع السلطة اليمينية الجديدة.. ثم يتوالى نفس الطريق.

ثمّة معضلات تدعو للفزع في هذه الأزمة.. المعضلة الأولى.. أن كشف المؤامرات ومعرفة المصير الصعب والسيناريوهات السيئة.. لا يعني بالضرورة القدرة على إيقافها. وهنا المعرفة وحدها لا تفيد. وهذا تغيّر كبير في السياسة الدولية.. حيث كان التاريخ السياسي للعالم ممتلئًا بالمؤامرات السريّة، والتي لو تمَّ اكتشافها لتغيّر التاريخ تمامًا. أمّا الآن.. فإن معظم السيناريوهات علنيّة.. ومعرفة أبعاد المؤامرات لا يغيّر كثيرًا في مجريات الأمور.. حيث تبدو الدول ذات الانقسام الفكري الحادّ.. وكأنها تُساق إلى قدرٍ محتوم، وليس بإمكان أحد وقف انحدار العربة من سطح الجبل.

المعضلة الثانية.. أن بعض اليسار قام بإهانة قيم العدالة والكرامة تحت أقدام الشعارات الزائفة.. ثم إنّ هذا البعض في حالة اختيار بين بقاء الضجيج الأيديولوجي الذي يمثله وبين بقاء الوطن.. لاختار الضجيج على الوطن.

المعضلة الثالثة.. الاقتصاد لا يمكنه الانتظار.. إن فنزويلا واحدة من أغنى دول العالم: أكبر احتياطي من النفط في العالم، وأكبر احتياطي من الذهب في العالم، ورابع أكبر احتياطي من الغاز في العالم.. واحتياطات ضخمة من الماس والألومنيوم والحديد.. فضلًا عن كميات هائلة من المياه العذبة. إنّ فشل فنزويلا يحتاج إلى معجزة. لكن هذه المعجزة تحققت ثم أصبحت معجزة مركبة.. لقد وصل التضخم في فنزويلا الثرية إلى 140% عام 2015، وفي عام 2016 بدأ انهيار العملة الفنزويلية أكثر فأكثر، وفي عام 2018 وصل التضخم إلى نسبة لا يمكن فهمها ولا تخيّلها.. حيث زاد معدل التضخم عن (2) مليون في المائة!

لم تقف الكارثة عند ذلك الحدّ.. إذ يتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل التضخم نهاية العام الجاري 2019 إلى (10) مليون في المائة!

لا طعام ولا أمن.. غادر الحدود خارج البلاد أكثر من ثلاثة ملايين نسمة.. أصبحت بلاد النفط والذهب بلاد الفقر والحزن.

المعضلة الرابعة.. عقاب الشعب باسم عقاب السلطة. إن آلية العقوبات الأمريكية تذهب دومًا إلى خنق السلطة بخنق الاقتصاد. وفي حالة فنزويلا، منعت أمريكا أرباح النفط الفنزويلية من الوصول للحكومة، كما أنها تنوي منع استيراد النفط الفنزويلي.. لإنهاك قوة السلطة. لكن الواقع أن الشعب هو الذي يعاني الذبول والجفاف.. هو الذي يعاني الجوع والمرض.

سيقولون في أروقة الأمم المتحدة.. تم فرض عقوبات على النظام، لكن الحقيقة التي يعرفها الجميع.. تم فرض عقوبات على الشعب.

كان الرئيس مادورو سائق حافلة بارع قبل أن يصبح نقابيًّا ونائبًا ووزيرًا ورئيسًا.. لكن القيادة في 2019 ليست كما كانت على امتداد حياته.

إن الدروس من أزمة فنزويلا لا تنتهي.. كيف تتحوّل "الثروة" إلى "لعنة".. بدلًا من أن تنتشل حقول الغاز الناس من الفقر يغرق الملايين في آبار النفط. إن الثروة الحقيقية هى "العقل" وليس "الحقل".. العقل السياسي هو ثروة كبرى.. وكل ثروات الأرض من دون عقل سياسي.. هى والعدم سواء.

 

 

 

نقلًا عن صحيفة "الأهرام" 



كلمات دالة

فنزويلا، الولايات المتحدة الأمريكية، اقتصاد، سياسة، روسيا، الذهب، النفط

أحمد المسلماني


مؤسس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجية

تواصل معنا

الكتاب

أحمد المسلماني

الكاتب السياسي والمستشار السابق لرئيس الجمهورية

مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجية

متابع جديد

الموقع الأفضل للبحوث والدراسات الاستراتيجية