• Thursday, 25 April, 2024
  • 03:32 PM
الرئيسية العالم

خريف المنطق


  • أحمد المسلماني

  • 2020-02-17 03:23:19

بعض القرارات بلا منطق.. وبعض السياسات بلا دراسة.

يتصور الناس أن هناك حكمة خفيّة في السياسات العالمية الكبرى.. وأنه لا مكان للخطأ أو العبث. كلّ الخطوات مدروسة.. كلّ السيناريوهات منضبطة.. كلّ مقدمة تقود إلى نتيجة، وكل قرار يؤدي إلى غاية.

لا أعتقد أن الأمور تسير حقًا على هذا النحو الهندسي الحاسم. ذلك أن بعض القرارات بلا منطق، وبعض السياسات بلا دراسة.. وكثيرٌ من التحليلات والنظريات تخترع الحكمة اختراعًا حتى توجد لها مكان.

يأتي هذا الحديث بمناسبة.. نهاية الحرب الأمريكية في أفغانستان بعد 18 عامًا. بدأت الحرب عام 2001 ضدّ نظام طالبان وانتهت الحرب عام 2019 بعودة طالبان. في عام 2001.. طالبان حركة إرهابية كبرى.. وفي عام 2019.. طالبان قوة سياسية تشارك في صُنع السلام.

فيما كانت الحرب إذن؟ وفيما كانت الأموال والدماء؟ وفيما كانت الخطب والتصريحات؟

إن تأمُّل ما جرى في تلك الحرب - وهى الأطول في تاريخ أمريكا - يذهب إلى أن "المنطق" بات يواجه تحديات ضخمة.. وأن "اللامنطق" يجد كل يومٍ مكانًا أكثر اتساعًا. يقول الرئيس دونالد ترامب: "إننا ننفق (50) مليار دولار في حرب أفغانستان كل عام. والآن نتفاوض معهم للعودة إلى ما قبل 18 عامًا".

قدرّت وزارة الدفاع الأمريكية تكاليف الحرب في أفغانستان عام 2018 بنحو (45) مليار دولار.. وقدرّها الرئيس ترامب بنحو  (50) مليار دولار.. وإذا ما تم تقدير إجمالي تكلفة الحرب مع ثبات الرقم السنوي الذي أعلنه الرئيس ترامب.. تكون الحرب في أفغانستان قد تكلفت نحو (900) مليار دولار.. وهو رقم قريب من تقدير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن.

لكن مراكز دراسات أخرى ترتفع بالرقم قليلًا ليزيد عن التريليون دولار. أما "جامعة براون" الأمريكية فإنها تصل بالرقم إلى قرابة الضعف. وينقل موقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عن "نيتا كراوفورد" منسقة "مشروع تكلفة الحروب" في "جامعة براون" الأمريكية تقدير فريق المشروع لتكلفة الحرب على أفغانستان بأكثر من (2) تريليون دولار. وأمّا تكلفة الحروب الأمريكية في أفغانستان وباكستان والعراق منذ 2001 فهي تزيد عن الخمسة تريليونات دولار!

لا تشمل هذه الأرقام التكاليف المستقبليّة لرعاية قدامى المحاربين. وتقدِّر "ليندا بلايم" من جامعة هارفارد نفقات الخدمات الطبية للمحاربين في هذه الحروب خلال الأربعين سنة القادمة بأكثر من تريليون دولار.

لقد تجاوزت نفقات حرب أفغانستان نفقات حرب فيتنام.. إن حرب أفغانستان بتقدير عدد كبير من الباحثين.. هى ثاني أعلى الحروب تكلفةً في التاريخ بعد الحرب العالمية الثانية. وقد توصّل عالم الاقتصاد جوزيف ستيجلز الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد.. في دراسته الشهيرة مع جامعة هارفارد.. إلى أن حرب العراق وحدها تجاوزت الأربعة تريليونات دولار من دون النفقات الطبية المستقبلية. أمّا الرئيس دونالد ترامب فإنَّهُ يقدّر تكاليف الحرب في العراق بأكثر من ستّة تريليونات دولار.

إذا ما اعتمدنا رقم الرئيس ترامب في حرب العراق، ورقم "جامعة براون" في حرب أفغانستان.. تصل تكلفة الحربيْن إذن إلى أكثر من (8) تريليون دولار!

قال لي وزير الإعلام العراقي الأشهر "محمد سعيد الصحاف" حين التقيته في أبوظبي قبل سنوات: لقد عرضنا على أمريكا أن تأخذ النفط بسعر عشرة دولارات للبرميل ولكن بوش الابن رفض.. وأصّر على الحرب وإسقاط نظام صدام حسين. وفي تقديري لو أن أمريكا كانت قد عقدت هذه الصفقة لوفرّت تريليونات الحرب ومعها تريليونات النفط.. لكنها لم تفعل.

إن الدماء التي سالتْ في هذه الحروب هى أعلى تكلفة بكثير من كل هذه التريليونات.. ففي حرب أفغانستان خسر الجانب الأمريكي أكثر من (2000) قتيل و(20) ألف مصاب.. وخسر الجانب الأفغاني أكثر من مائة ألف قتيل. تتحدّث مراكز الدراسات الاجتماعية الأمريكية عن خسائر نفسيّة هائلة في صفوف الأمريكيين.. حيث يعاني ثلث المليون من الجنود السابقين ممن خدموا في حربىْ  أفغانستان والعراق من إصابات في الرأس.. أدت إلى اضطرابات ذهنيّة. وحسب "بي بي سي" فإن تقريرات "المركز الوطني للجنود المتقاعدين" في الولايات المتحدة مروّعة للغاية.. حيث يُقدِم على الانتحار (20) جندي متقاعد كل يوم!

يتفهم كثير من الأمريكيين قول الرئيس ترامب "لقد تسلمتُ فوضى عارمة.. حروب لا نهاية لها.. مع قتلى وإنفاق غير محدود". إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن.. أين المنطق في كلِّ ما جرى؟ أين مصلحة واشنطن في إنفاق التريليونات وتشييع القتلى؟

يتحدث كثيرون عن "لا أخلاقية" الحرب.. وعن الدول التي تهدّمت، والدماء التي أريقت.. عن أم القنابل والطائرات بدون طيار. لكن الرد الطبيعي على ذلك هو أن الحرب بطبيعتها "فكرة لا أخلاقية".. وأنّه طالما تتحقق أهداف المنتصر.. فإن الحديث عن أخلاقية الحرب لن يتجاوز هوامش التاريخ.

لكن المعضلة هنا ليست كذلك.. المعضلة هى "لا منطقية الحرب".. بغضِّ النظر عن "لا أخلاقية الحرب". إنها دماء في الهواء.. حروب عبثية تنتهي من حيث بدأت. بعد سنوات طويلة من المال والدم.. عادت طالبان إلى ما كانت عليه قبل الحرب. لا هدف إذن ولا غاية. لا منطق في حرب الثمانية عشرة عامًا.. ولا رؤية. سيقول البعض كان الهدف تدمير أفغانستان.. هذا صحيح، ولكنها كانت متهدّمة أصلًا. إذن فقد كان الهدف إسقاط النظام.. لكن النظام قد عاد من جديد.. وجرى الاعتراف به والتفاوض معه.

إنّ ما لم يفكر فيه أحد.. أو لا يجرؤ على التفكير فيه.. هى أنها  قد تكون مؤامرة على أمريكا بمثل ما أنّها مؤامرة على أفغانستان.. إنهاك أمريكا عبْر تدمير أفغانستان. لقد تجرأ الرئيس ترامب وقام بترجيح هذا الاحتمال..

إن صعود "اللامنطق" في العلاقات الدولية.. هو أكبر مصدر لتهديد السلام العالمي. سيحاول البعض اختلاق الحكمة بأثر رجعي وإدعاء عبقرية زائفة.. لكن ذلك كله لا يمكن أن ينفي ذلك الصعود الكبير .. للدور السياسي للغباء.

 

 

 

 نقلًا عن صحيفة "الأهرام" 



كلمات دالة

افغانستان، الولايات المتحدة الأمريكية، العراق، طالبان، الجيش الأمريكي، السياسات

أحمد المسلماني


مؤسس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجية

تواصل معنا

الكتاب

أحمد المسلماني

الكاتب السياسي والمستشار السابق لرئيس الجمهورية

مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجية

متابع جديد

الموقع الأفضل للبحوث والدراسات الاستراتيجية